في قصر الإمبراطورة

   في أوّل تموز، من عام 1934، وقد ارتحت من عناء الدراسة في كلّيات "الحيّ اللاتينيّ" الجامعيّ، دعاني صاحب لي، ورفيقي في استقاء المعرفة، إلى زيارته، في مسكن له ببلدة تقع في ضاحيةٍ من ضواحي"باريس" إلى الجنوب الغربيّ منها، تدعى "رُوَايْ"، القريبة من نهر "السّان" القاسم مدينة النور، الحاضرة العالميَّة إلى قسمين، وغير البعيدة عن مدينة "فِرْسَاي"، مدينة ملوك فرنسا العظام التاريخيّة، المشتهرة بقصورها، وملكها الملقّب ملك الشمس "لويس الرابع عشر".

   لبَّيتُ دعوة الرفيق الصديق، فانطلقتُ مبكرًا من فندق غير ناءٍ عن ميدانِ أو ساحة "إيطاليا"، في يوم مشمسٍ، يُشبه أيام صيف جبال "لبنان"، وما هي إلّا ساعة حتّى كان الصديقُ يستقبلني ببَشاشة وجهٍ وترحاب، دلّا على روح القِرى عنده، خلته كأنّه قرويٌّ من بلاد المشرق العربيّ المضيافة؛ لم تُطل الاقامة في منزله المتواضع إذ أبديتُ له رغبتي في التنزّه، واغتنام فرصة الطقس الصافي الجميل، للتمتّع بجمال الطبيعة واستكشاف بعض الآثار في تلك الضاحية، فانطلقنا جذلين نسير على الأقدام، تارةً هرولةً، وطورًا نخطو الهويناء؛ في طرقٍ جوانبها مغروسةٌ بأشجار الكستناء والصفصاف والدلب أو مسيّجة بالعلّيق، ذي الكبوش المحمرَّة، تحاذيها حقولٌ ومروجٌ خضراء، مرصَّعة بثمار الفريز والكشمش وزهور النَّفَل والحندقوق، المحوّم فوقها نحلٌ يعلو ويهبط محاولًا امتصاص مائها السكَّري لصنع الشهد، مع دندنةٍ تُطرِب الأذن ولا تَخدِشها، تُسْمَع كأنّها آلة موسيقيّة يحرّكها بنانٌ ناعم.

   لم يُوقفنا هذا المشهد الحلو المروّق للأعصاب المرهقة، على نزوعنا إلى التوقّف وقطف زهرٍ فائح الشذى، نجعل منه باقةً تُهدى إلى من قد تُلاقيه من عشَّاق الجمال الفطريّ، بل واصلنا المسير وهدفنا زيارة قصرٍ شهير في المنطقة تلك، هو القصر المسمَّى "مَلْمِيْزُونْ" "Malmaison غير البعيد عن قصور "فرساي"، وقصر أحد رجالات فرنسا القدامى الكردينال "ريشيليو"، إنّه قصرٌ يهفو إلى زيارته كلّ من يؤمُّ "باريس" من هواة التاريخ والفنّ. اتّخذته زوجة "نابليون" مقرًا لها حتّى بعد طلاقه منها في العام 1809؛ وكان آخر ما وقَعَتْ عليه ناظرا الأمبراطور، الجنرال "بونابرت" سابقًا، الذي دوَّخ أوروبا بحروبه ومغامراته، حتّى طارت شهرته في آفاق الأرض، قبيل مغادرته فرنسا ووداعه لزوجته، ليقع فريسةً ثمينةً في شرك الإنكليز الذين أسروه واختاروا له منفى في آخر الدنيا، جزيرة "القدّيسة هيلانة"، بعد أن سيّجوا دروبه بالأشواك وهشَّموا طموحه وحرموه من نيل ما ابتغى وأراد، وهو ذو الإرادة الحديديَّة، التي لم يستطع سحقها سوى الإرادة الإنكليزيّة الفولاذيّة الباردة.

   هذا "النابليون" الجبَّار، الشامخ الطموح الذي أراد في آواخر القرن الثامن عشر، خلق مملكةٍ له في المشرق، وبالتحديد في "مصر" و"بلاد الشام"، لمضايقة العدوّ التقليديّ، الأسد البريطانيّ، وقطع طريق الهند على الشعب الإنكليزيّ، والهند دُرَّة ثمينة متلألئة في التاج البريطانيّ، وهذا الّذي أخضع أوروبا رِدْحًا وجيزًا لسلطانه، وانتصر في معارك "أوسترليتز" وتلال "براتْزِنْ" على جيوش "النمسا" و "روسيا" واحتلّ "موسكو"، الّتي اضطرّ للتراجع عنها، وجنوده تحت وطأة الثلج والصقيع وجلد المقاومة المسكوبية، تجوّلنا في قصره، قصر زوجته "جوزفين" أيضًا، وقد تحوّل إلى متحفٍ وطنيّ، فيه بعض آثاره، وهو الرجل العظيم الّذي رفع علم فرنسا عاليًا، العلم الذي لم يفتأ أن تنكَّس وانطفأت النار التي توهّجت في رأسه، ولكن ليبقى ذكره مخلّدًا ليس فقط في "أنفاليد" "باريس"، بل في هذا القصر، محجّة الزائرين الوافدين من أطراف "أوروبا" وسائر بلاد كوكبنا.

   إنّه متنزَّه لحاملي الهموم والمُتعبين من أهل المدينة الكبيرة وميمّميها، محاطٌ بجِنانٍ خلّابةٍ متنوّعة الشجر والزهر، ومزار لمحبّي الآثار والمؤرّخين؛ فيه مكتبة "نابليون" الثمينة الكتب والمخطوطات، وقاعة فخمة للموسيقى ولوحات عديدة الأنواع والأشكال والأحجام لكبار الفنّانين في عصر "الجنرال" و "الأمبراطور".

   فهناك لوحةٌ تصوّر الفاتح لبلاد المشرق "بونابرت" أمام الأهرام الفرعونيّة، ولوحةٌ أخرى تصوّره بجوار مدينة "عكّا"، في خلال حصاره لها، وقد حرمه "أحمد باشا الجزّار" وأسطول "نلسون" الإنكليزي من نشوة الانتصار عليها، يلامس فيها أحد جنوده الذين كاد يقضي عليهم بالكلّية، مرض الطاعون.

  وهنالك صورةٌ له مع "جوزفين" الفاتنة، شريكة بعض عمره ما بين 1796 و1809، ولوحةٌ تُظهره على فراش الموت في جزيرة "القديسة هيلانة" النائية، الضائعة في خضمّ "المحيط الأطلسي" والباعدة ألفًا وتسعمائة كم عن شطآن "أفريقيا"، والتي عاش فيها منفيًّا مقهورًا من عام 1814 ألى عام 1821، بعيدًا عن الأبَّهة والمجد.

   وفي هذا القصر المنيف، المحوَّل إلى متحفٍ تاريخيٍّ، فضلًا عن السجّاد النادر الثمين المحوك في مصنع "الغوبلان" "Gobelins" الملكيّ الشهير، رواقٌ لفت أنظارنا بالشخوص المرتدية جلابيب مصريّة وعمائم مدوّرةً ضخمةً، والممثِّلة لبعض  علماء النهضة الذين بعث بهم "بونابرت"، وبعده "محمد علي" إلى فرنسا، لارتشاف العلم من معين مدارسها وجامعاتها، في  نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر؛ وفي القصر غير ذلك من الآثار الباقية من جرّاء حملات الإمبراطور المغامر العسكريّة.

   وما أن انقضى على تجوالنا في هذا القصر ساعتان، حتّى بدأ التعب يستولي علينا ويأخذ منا مأخذًا، وقد مالت الشمس إلى الزوال واقتربنا من الأصيل، فغادرناه محمّلين بذكريات لا تُنسى، إلى محطة قريبة أعادتني إحدى سيّاراتها إلى مقامي في شارع "الغوبلين" "بباريس"، بعد أن ودَّعت الصديق والرفيق، شاكرًا له حسن الاستقبال والمرافقة وكرم الضيافة.

                                               يوسف س. نويهض

                                                 2 تموز 1934